يعاني جزء كبير من البدون في الكويت من تعثّر الخدمات المدنية، وخصوصاً إذا كان عديم الجنسية ولا يملك البطاقة الأمنية، أو إذا كان يملكها، لكنّها منتهية.
تمثّل قضية البدون في الكويت إحدى أكثر قضايا الخليج تعقيداً، بسبب تداخل عدة قطاعات فيها، بطريقة تجعلها مشوشة جداً للمتلقّي الذي يريد أن يقرأ الوضع كما هو، ويستقرئ الأحداث وتفاصيلها وأرقامها كما هي في الواقع.
وما يزيد الطين بلّة، أنَّ خطاب السلطة في الكويت وتقارير وزارة الداخلية والجهاز المركزي للإحصاء تصوّر هذه القضية كأنّها في الطريق إلى الحل، وأنّ أكثر من لم يحظوا بالجنسيّة لا يستحقّونها، وهو ما يخالف تقارير منظمات حقوقية واكبت معاناة الكثيرين من عديمي الجنسية.
كما أنَّ تقارير الناشطين الحقوقيين من هذه الفئة كلّها تشترك في تقديم رواية أخرى غير رواية الجهات الرسمية. أما المنظمات الدولية – وخصوصاً مفوضية اللاجئين – فإنها تحذّر من تفاقم هذه المشكلة، وتنذر الكويت بأنَّ تزايد أعداد البدون قد يعرّض الدولة لأمراض سياسية مزمنة لا يمكن حلّها.
وقبل أن أتطرّق إلى ملفات هذه القضيّة، أريد أن أوجّه شكري الخاص إلى الأخوين أحمد السويط وعبد الصمد التميمي، وهما ناشطان من فئة البدون، فقد زوّداني بحزمة من الوثائق والمعلومات، وأجابا عن الكثير من تساؤلاتي، كما أشكر إخوة كويتيين وآخرين حقوقيين من دول خليجية لمساعدتهم على جمع معلومات كوَّنت لديَّ رؤية، أدَّعي أنها تحكي جزءاً كبيراً من معاناة هذه الفئة.
البعد الحقوقيّ
يعدّ البعد الحقوقيّ في قضيّة البدون هو البعد الأبرز – على مستوى التداول – في هذه المشكلة. ودائماً ما يتطرّق النقاش بين المهتمين إلى هذا البعد، لأنّه يلامس حاجات الإنسان الضّرورية، كما أنّه يتحسّس وجع هذه الفئة في تعليمها ومعيشتها ومستقبل أبنائها.
تدَّعي السلطة في الكويت أنَّ فئة البدون تنقسم إلى قسمين؛ فئة الموثّقين، وهم الذين وثقوا أسماءهم لدى الجهات الرسمية، وهؤلاء يشملهم قانون المقيمين بصورة غير قانونية، وهو القانون رقم 409 للعام 2011. يتيح هذا القانون للموثّقين العلاج والتعليم مجاناً، وإصدار شهادات الميلاد والوفاة، وشهادات الزواج والطلاق، واستصدار رخص القيادة وغيرها مما ينطبق على كلّ من انتهت إقامته وطلب تمديدها.
وبحسب السّلطة، هناك فئة من غير الموثّقين، وهؤلاء يعيشون حياة صعبة. ويتّفق جميع الكويتيين على أنّ وضع الأغلبية من هذه الفئة كوضع الذي يخضع للإقامة الجبرية، وخياراته محدودة جداً.
وضمن سلسلة خطابات السّلطة الممهورة بعبارات التقليل من صرخات البدون، تدّعي الجهات الرسمية الكويتية أنها تسوّي أوضاع البدون بصورة تدريجية. وقد أظهرت الأرقام الرسمية أنَّ البدون الذين لم تُسوَ أوضاعهم لا يتجاوزون 88 ألفاً، بينما تشير إحصائيات غير رسمية إلى أنَّهم 120 ألف نسمة. ويذهب بعض الناشطين ممن استطاعوا الهجرة إلى بلدان أوروبية إلى أنَّ البدون أكثر من 200 ألف نسمة، لكنّ السّلطات تتكتَّم على الأرقام الحقيقية.
ويعاني جزء كبير من البدون من تعثّر الخدمات المدنية، وخصوصاً إذا كان عديم الجنسية ولا يملك البطاقة الأمنية، أو إذا كان يملكها، لكنّها منتهية، فيكون حبيساً في نطاق خدمات ضئيلة، فحتى بعض المدارس الخاصة تطلب البطاقة الأمنية للوالدين في حال تسجيل الأبناء، وهو ما يعقّد حياة البدون، فضلاً عن أنّ بعضهم في بيوت تحتاج إلى ترميم أو هدم وإعادة بناء، واستصدار رخص البناء تحتاج إلى أوراق عدة رسمية، ولكن لا يملكها عديم الجنسية بطبيعة الحال.
البعد السياسي
في 5 شباط/فبراير 2020، قدّم رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم عرضاً مطوّلاً في جلسة مجلس الأمّة، وكان العرض يتناول التحديات التي تواجه حلحلة ملف البدون، ومن ضمن المعلومات التي قدّمها: “بحسب الأرقام الرسمية – وفق ما قال – إنَّ 42 شهيداً فقط ممن استشهدوا في حرب التحرير من فئة عديمي الجنسية، وهؤلاء – والكلام للغانم – تستحقّ عوائلهم الجنسية بلا شك”.
ويضيف: “لكن في المقابل، كشف عن 3944 متعاوناً مع جيش صدام حسين من هذه الفئة”، مستدلاً على أنّ هناك أسباباً كثيرة، من ضمنها الأمن القومي الكويتي، تمنع تسوية أوضاع كل عوائل البدون.
ويشير الغانم في المداخلة نفسها المشار إليها إلى أنّ جزءاً كبيراً من هذه الفئة من حاملي الجنسيات من بلدان عربية، وأنهم أخفوها وادّعوا أنهم بدون لكي يحظوا بالجنسية الكويتية وامتيازاتها. ويدلّ على ذلك أنّ عدد البدون في العام 1990 كان، بحسب الأرقام الرسمية، 219027. وبعد التحرير، أي في العام 1992، تراجع العدد إلى 117115، أي انخفض 101912.
القانون “السامّ”
في تشرين الأول/أكتوبر 2019، تقدم 5 نواب في مجلس الأمة بقانون عُنون بـ”اقتراح برغبة في شأن المقيمين بصورة غير قانونية”، ووقع الاقتراح كل من مرزوق الغانم، وصفاء الهاشم، وعمر الطبطبائي، وراكان النصف، وعبد الله الرومي.
فحوى القانون:
– يعتبر البدون مقيمين غير قانونيين.
– إجبار البدون على تعديل أوضاعهم من خلال مساعدتهم على اللجوء إلى بلدان أجنبية مقابل مغريات مادية.
– الممتنع أو المتخلّف عن تنفيذ أحكام القانون يعتبر مخالفاً لقانون الإقامة، ويعامل معاملة الأجنبي المخالف لإقامته.
هذه اللسعات السّامة التي أتى بها القانون لا تتلخّص في التضييق على فئة من فئات المجتمع الكويتي فحسب، بل يصل سمّها إلى فؤاد كرامة الإنسان، الذي عاشت عائلته في الكويت أكثر من بعض النواب أنفسهم، بل هذا القانون يخلق بسُمِّه الزعاف طبقية مستترة، تتراكم مع الأيام لتصل إلى مرض العنصرية.
كتب الناشط أحمد السويط، وهو باحث دكتوراه “عن قضية البدون” في كلية لندن الجامعية، بعض الملاحظات على هذا القانون، منها أنَّ منظمة العفو الدولية أدانته بشكل قاطع، وحذّرت من تطبيقه، وأنه يرسّخ التمييز، ويسلب مواطنين من حقوقهم من دون تحقّق ولا دليل، ويلغي رأي أصحاب القضية، ويفرض عليهم حلاً يستأصلهم من أرض أجدادهم.
السرد الموجع
تناضل ثلة من الكويتيين البدون لأجل هذه القضيّة عبر سرد موجع؛ موجع لأنّه يريد أن يثبت أحقية التشبّث بالأرض، عبر كشف السلالات، وعبر تظهير التاريخ المكتوب الذي يحكي أنّ عدداً كبيراً من البدون كانوا يعملون في دوائر الدولة في العام 1930، وكلمة “دوائر” تشير إلى زمن ما قبل تشكّل الدولة البيروقراطية، إذ تشكَّلت أول حكومة بوزاراتها في العام 1962 برئاسة عبد الله السالم الصباح.
من السّرد الموجع الذي يأتي دائماً على لسان الناشط عبد الصمد التميمي مثلاً، هو دور التجار في هذه المأساة. هذه النقطة تحديداً بحثتُ عنها عند أكثر من مصدر، وهناك مقاربات تكاد تكون متطابقة مع دورهم السيئ في استمرار معاناة البدون.
هل البدون رقم في بورصة التجار؟
إذا سألت الشارع الكويتي عن شخوص التأزيم في قضية البدون، فإنهم سيشيرون إلى طبقة التجار، المتمثّلة في راهننا بعدد من التجار الكبار، أبرزهم رئيس مجلس النواب مرزوق الغانم، ورئيس غرفة التجارة والصناعة محمد الصقر، ورئيس الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين غير القانونيين ناصر الفضالة، الذي كان نائباً سابقاً.
تعتقد شريحة كبيرة من البدون أنَّ هؤلاء الثلاثة، الغانم والصقر والفضالة، مع عدد من النواب، يجعلون المواطنين العديمي الجنسية عرضة لبورصة السياسة التي تُقاد من خلال رسم السياسات الاقتصادية، والتي يتحكّم فيها التجار، عبر لوبي غرفة التجارة والصناعة، كما أنَّ لهم نفوذاً في العائلة الحاكمة، عبر تشبيك الصفقات مع أمرائها بيد، والإمساك بمجلس الأمة بيد أخرى، بل يذهب البعض إلى أنّ طبقة التجار هي الدولة العميقة في البلاد، وهي وراء توقيع وثيقة العام 1986 التي تضيّق على فئة البدون بشكل كبير؛ الوثيقة التي كشفت عنها في حينها جريدة “الطليعة” المعارضة، الأمر الذي عُد فضيحة سياسية، والتي تنصّ على ترحيل البدون، وهو القانون نفسه المقدم في مجلس الأمّة في العام 2019، لكن الأخير كُتب بلغة قانونية، وأريد له أن يكون شرعياً عبر غسيله بختم مجلس الأمة وتعليقه على يافطة “الديمقراطية المزعومة”، لكن لا يخلو مجلس الأمة من نواب مناصرين لهذه الفئة المنكوبة، من أمثال النائب عسكر العنزي الذي تغيَّب عن اجتماع اللجنة في العام 2020 لتعطيل القانون السيئ الصيت حين أعيد طرحه.
مجموعة الـ80 ودورها القادم
تنبّه لوبي التجّار إلى أنَّ تغلغلهم في مفاصل الدولة لن ينجيهم من الصورة السيّئة التي طُبعت على جباههم، وخصوصاً في ما يتعلَّق بقضية البدون، فراح التجّار يفكّرون ملياً في إنشاء لوبي ظاهره بيروقراطي، يتألّف من نخبة المجتمع من أطباء ومحامين ونواب سابقين وبعض الوجهاء، فاجتمع 80 شخصاً في العام 2017، بدعم من البورصة ومباركة من “البشت”، وأسّسوا تجمّعاً أطلقوا عليه تجمّع الثمانين.
المثير أنَّ حلقة الوصل بين هذا التجمع والتجار هو رئيس الجهاز المركزي للمقيمين غير القانونيين، ناصر الفضالة، الذي حظي بدرع من التجمع وإشادة رفيعة على جهوده الوطنية، بحسب ما دبجوا له خلال احتفال نُشر في وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للتجمع يوم الثلاثاء 21 كانون الأول/ديسمبر الحالي. وتحدّث المنسق العام للمجموعة عادل الزواوي عن حرص المجموعة على أوجاع مزوري الجنسية، ويقصد بهم المواطنين البدون.
تراكم العنصريّة مسؤوليّة “البشت” أم عذر البورصة؟
رغم الكثير من التّفسيرات والقراءات للتعقيدات التي يشهدها ملف البدون، فإنَّ الخوف من خلق طبقية يبدو واقعياً، وخصوصاً أنَّ الخطاب الإعلامي المتبادل بين البدون ومن يحاربهم من نواب وتجار هو خطاب يحتمي بمفردات التشبّث بالوطنية والحق، وهو أشبه بالخطاب الذي يحدث أثناء الحروب النفسية بين دولتين جارتين.
الخطورة أنَّ إنتاج الطبقية ينتج معه حزمة من الأمراض السياسية والاجتماعية لا يمكن أن تشفى سريعاً، والجهات الرسمية التي تدعم لوبي التجار ورديفه لوبي مجموعة الثمانين، ستكون مسؤولة أمام التاريخ عن الشرخ العميق الذي أنتجته السياسات الخاطئة.
المصدر: https://www.almayadeen.net/articles/البدون-في-الكويت-من-بشت-الشيخ-إلى-بورصة-التاجر